حرر المقالة عبدة التونسي

بلا شك ولا نقاش او جدل بيزنطي (ممكن ان يدور اليوم) الأندلس كانت حقبة نور في عصور الوسطى المُظلمة، ولا زال أثرها او بالأحرى إرثها يلمع ويلمع الكثير من حاضرنا العلمي والحياتي بشكلٍ او باخر. وأيضاً ولا جدل به أن تآكُلها كان على يد المُتعصبين الدينيين من مسلمين ومسحيين. علاوة على ذلك، طبيعة الإنسان في الانانية وحُب السيطرة، مما أدى إلى التمزق وهدر القُدرات لحساب هذا او ذاك، تماماً كما حدث ويحدث اليوم

لنبدأ في الوصف التجريدي للحقبة الأندلسية، أي في مضمونها المدني بعيد عن الصراعات في الداخل والخارج. لم تكن هذه الحقبة بعيدة عن النهضة العربية الإسلامية خلال عشرة قرون من الزمن، حيث العلوم والبحث عن المُستقبل الزاهر كان الشُغل الشاغل للعقول الفريدة التي لم تتقاعس عن جمع علوم الماضي ووضعها بخدمة علوم انا ذاك. ولهذا كان هناك وقع عميق للغة العربية حيث كانت لغة هذه العلوم، والتي اتخذها العالم خلال هذه القرون العشر كمعلقة لتناول الثقافة ممثلة في العلوم. ونذكر هنا أن أحد الدارسين اليهود في طُليطله وبعد سقوطها بيد المملكات المسيحية، حينها اوعز لابنة أن يتعلم اللغة العربية كونها لغة العلوم، وهنا لا بد من التنويه أن هذه المدينة وبعد سقوطها وخلال ثلاث قرون كانت لغُتها الرسمية هي العربية

بحث عن الأندلس - سطور
حرم مسجد قرطبة

لماذا سُميت الحقبة الأندلسية بالحضارة الشرقية الغربية؟ ألمقصود به انها وليدة الشرق وتربية الغرب، وكما أقول في مُعظم مُحاضراتي «العرب والمسلمين جاءوا ببذرة العلوم إلى شبة الجزيرة الإيبيرية وحرثوا الأرض وزرعوا بها هذه البذرة، ولكن، العناية والتكاثر لمحصولها هو من جُهد اهل الأندلس من عربٍ وأمازيغ وقوط والكثيرين من طالبين العلم». هكذا إذاً هي شرقية غربية

بالتوافق مع التقدم العلمي في الشرق الإسلامي والغرب الإسلامي كان هناك تبادل في جميع مجالاته، ولدينا الكثير الكثير من الأمثلة عن الذهاب والإياب للعلماء والفلاسفة بين ضفتي الأبيض المتوسط. تموج هذا البحر، جمع حوله كنوز علمية أدت لأن نكون اليوم خُلاصةٌ لها في امورنا الحياتية. وعبر الزمان تغذت منه شعوب أخرى بعيدة عن شواطئه، مثل شمال أوروبا او ما سُمي بالعالم الجديد. إذاً نحن أمام تفاعل حضاري ونورٌ سطع في جميع الجهات، ولو ان البعض في أوروبا في العهود الوسطى لم يتمكنوا او بالأحرى لم يرغبوا بتقاسم هذه الحضارة، كونها حضارة «الكافر» أي المُسلم، وهنا لعبت التعصبية الدينية لُعبتها المُفضلة، الا وهي الجهل، لذلك بقوا في الظلمة (الفيديو المرفق في الأسفل يُفسر هذا بوضوح)

تماثيل لعلماء وفلاسفة اندلسيين في مدينة قرطبة الخالدة

رغم كل الشدائد عقود بعد عقود، الحضارة العربية الإسلامية الأندلسية انتصرت عليها وجعلت من مِصباح علومها مركز استقامتِها في المُضيّ والتعالي على الصعوبات والمِحن واحداث كانت خارج إرادتها. هنا اصفها كالأم التي ترعى أولادها وتفديهم بجُهدها، نعم انها اُمنا في الضراء والسراء ولابد ان نُقدم لها تكريماً يليق بها وبعظمتها، وحبذا لو اتفق أبناءها الشرقيين والغربيين على مشرع تأسيس «دار الحكمة المتوسطية» نجمع بها هذا الإرث المُشترك العريق

لنعود لعنوان المقالة وهنا لنرى كيف تآكلت الحقبة الأندلسية على يد التعصب الديني. في هذا المضمار لا ينجوا أحد من طرفين النزاع السياسي العرقي الديني. من الجانب الأوربي المسيحي كانت هناك ردة فعل طبيعية امام الزحف الشرقي الإسلامي وتوسع رقعة أراضه كدولة سياسة. دخول الإسلام لأوروبا لم يكن كما حدث في مناطق شاسعة من العالم، كون القارة هي حدود طبيعية بين الشرق والغرب وهذا ليس بجديد، فعلى مر التاريخ كانت الهيمنة على المناطق المتنازع عليها او مناطق النفوذ في مدٍ وجزر. ما علينا إلا ان نقرأ عن تبادل قبائل شرق وغرب اسيا الصغرى الحكم شرقاً وغرباً. أما الجديد هو ان عنصر الدين كان عامل لتأجج الصراعات كما يحدث في الإيدلوجيا السياسية، فهي أيضاً مُعتقدات ولا تخلوا من التعصب، واذكر هنا كيف أستاذة جامعة في احدى محاضراتها وقفت تقول «لا اقبل جدال من أحد حول نظرية داروين» هذا يدل بكل وضوح على مدى ان التعصب يخلق النفير للاقتتال الكلامي او المُسلح، كلٌ يتسلح بعصبتيه ويريد ارغام الأخر او القضاء علية

أما من الجانب الإسلامي في الأندلس، في بداية عهدة وضع نصب تواجده التعايش، بكل التحفظ الذي يمكن ان نقرّ به على انه كانت هناك بعض الميزات للمسلمين، منها العرقية للعرب والتي ولدت نزاعات وتمرد من قبل مسلمين من أصول امازيغية او قوطيه، مثلاً القائد ابن مروان من أصول قوطية تمرد على الخلافة الاموية وأسس إمارته وأيضاً مدينة كعاصمة لها وهي مدينة «بداخوث» في غرب إسبانيا، ولازالت هذه المدينة تحتفل اليوم بعيد تأسيسها بحفل يُسمى ويلفظ بالعربية «المؤسسة». وهكذا أيضاً حدث مع أمراء من أصول امازيغيه. وما زاد الطين بلة هو الاستعانة او تدخل المرابطون والموحدون في شؤون الاندلس وقد حملوا معهم رائية الدين كفتوحات لشبهة الجزيرة الإيبيرية، والتي أدت لتجمع الجانب المسيحي ضد هذا الغزو ونصرة ممالك مسيحية أوروبية لهم. الدُخلاء على الاندلس كان لهم وقع سلبي أكثر بكثير من وقعه الإيجابي، وخلقَ كُرة لازال يُلمس من بعض الناس من اهل شرق اسبانيا، رغم انهم يفرقون بين الأندلس وحضارتها التي ورثوها حيث لا زالوا يستخدمون شبكة الرّي الأندلسية في حقولهم اليوم وبين ما فعلوه الدُخلاء، وينعون هذا بنهاية التعايش وخلق أجواء تعصبية دينية وعرقية، ومن هنا ورغم كل هذا، يحتفلون بهذه المعارك على انها من تاريخهم وكأنهم بهذا يردون التشديد على ان النزاع كان بين الأهل، أي وكما يبدوا لهم انها حربٌ أهلية رغم عنصر الدُخلاء

عناق بين القائد المسيحي والقائد المُسلم في إحدى هذه الاحتفالات التي تُقام في مدن وقرى الشرق الإسباني
على اليمين القوات المسيحية وعلى اليسار القوات المسلمة، والجدير بذكر ان الأهالي هي التي تدفع مصاريف الحفل من لباس وغيرة والكثير منهم يرغب ان يكون من القوات المسلمة كون زيهم احلى بكثير من القوات المسيحية

هذه الاحتفالات تُسمى «موروس (أي مُسلمين) وكرستيانوس (أي مسحيين)» تُقام في المشرق الاسباني حيث كانت هناك معارك الكرّ والفر التي دامت قرون، وتكثر بهذا الإقليم القلاع التي كان يدور حولها الصراع، وأيضاً مدن وقرى تحمل أسماء عربية. قد لا يتفق معي البعض في هذا التصور ولكن من تجربتي مع اهل هذه المناطق ولكون الكنيسة قد منعت هذه الاحتفالات لعقود طويله بينما كانت العوائل تتمسك بها وتحييها في البيوت، يدل بلا شك على ان هذا التصور الأكثر واقعية منه من انه احتفال انتصار المسحيين على المُسلمين، بكل الأحوال هذه أيضاً حقيقة

خلاصة الحديث، لو توافق الناس على العيش بسلام وتقاسموا المعرفة والازدهار والعمل بالمقولة العربية «كل واحد على دينه، الله يعينه» او بالمقولة الإسبانية «كل واحد في بيته والجميع في بيت الجدّة» او بمقولتي «الدين للفرد والجماعة والدولة للجميع» الشرق والغرب يلتقيان ومنه نُمجد حضارات ضفتي المتوسط ونتعايش بسلام